الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قلت: حديث أبي هريرة هذا فيه طول وهذا وسطه ويأتي آخره في الباب بعد هذا ويأتي أوله بعد ذلك إن شاء الله تعالى فيتصل جميعه إن شاء الله تعالى. ذكره الطبري وعلي بن معبد والثعلبي وغيرهم.وفي حديث لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ثم تلبثون ما لبثتم. ثم تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك يطوف في البلاد وقد خلت عليه البلاد وذكر الحديث وهو حديث فيه طول. خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده وغيره الأوزاعي.قال علماؤنا: قوله: فأصبح ربك يطوف بالبلاد وقد خلت عليه البلاد إنما هو تفهم وتقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت. وأن الأرض تبقى خالية وليس يبقى إلا الله كما قال: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وعند قوله سبحانه: {لمن الملك اليوم} هو انقطاع زمن الدنيا وبعده يكون البعث والنشر والحشر على ما يأتي. وفي فناء الجنة والنار عند فناء جميع الخلق قولان:أحدهما: يفنيهما ولا يبقى شيء سواه وهو معنى قوله الحق: هو الأول والآخر وقيل: إنه مما لا يجوز عليهما الفناء وإنهما باقيان بإبقاء الله سبحانه. والله أعلم. وقد تقدم في الباب قبل هذا الإشارة إلى ذلك. وقد قيل: إنه ينادي مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل الجنة: لله الواحد القهار.فصل: في بيان ما أشكل من الحديث من ذكر اليد والأصابع:إن من قائل: ما تأويل اليد عندكم واليد حقيقتها في الجارحة المعلومة عندنا. وتلك التي يكون القبض والطي بها؟ قلنا: لفظ الشمال أشد في الإشكال.وذلك في الإطلاق على الله محال.والجواب: أن اليد في كلام العرب لها خمسة معان: تكون بمعنى القوة. ومنه قوله تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد} وتكون بمعنى الملك والقوة. ومنه قوله تعالى: {قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} وتكون بمعنى النعمة. تقول العرب: كم يد لي عند فلان أي كم من نعمة أسديتها إليه. وتكون بمعنى الصلة. ومنه قوله تعالى {مما عملت أيدينا أنعامًا} أي مما عملنا نحن. وقال تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} أي الذي له النكاح. وتكون بمعنى الجارحة.ومنه قوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث}. وقو له في الحديث بيده عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته، يقال: ما فلان إلا في قبضتي. بمعنى: ما فلان إلا في قدرتي. والناس يقولون: الأشياء في قبضة الله يريدون في ملكه وقدرته، وقد يكون معنى القبض والطي: إفناء الشيء وإذهابه فقوله عز وجل: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة} يحتمل أن يكون المراد به الأرض جميعًا ذاهبة فانية يوم القيامة. وقوله: والسماوات مطويات بيمينه ليس يريد به طيًا بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب. يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره وانطوى عنا دهر بمعنى المضي والذهاب.فإن قيل: فقد قال في الحديث: «ويقبض أصابعه ويبسطها» وهذه حقيقة الجارحة؟ قلنا: هذا مذهب المجسمة من اليهود والحشوية. والله تعالى متعال عن ذلك وإنما المعنى حكاية الصاحب عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقبض أصابعه ويبسطها وليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يقبض أصابعه ويبسطها. قال الخطابي وذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب والسنة المقطوع بصحتهما.فإن قيل: فقد ورد ذكر الأصابع في غير ما حديث فما جوابكم عنه؟ فقد روى البخاري ومسلم قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فأنزل الله عز وجل وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه. وروى عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ومثله كثير. قيل له: اعلم أن الأصابع قد يكون بمعنى الجارحة والله تعالى يتقدس عن ذلك، ويكون بمعنى القدرة على الشيء، ويسارة تقليبه، كما تقول من استسهل شيئًا واستخفه مخاطبًا لمن استثقله: أنا أحمله على أصبعي وارفعه علي بأصبعي، وأمسكه بخنصري. وكما يقال من أطاع بحمل شيء: أنا أحمله على عيني وأفعله على رأسي. يعني به الطواعية وما أشبه ذلك. قد قال في معناه وهو كثير. ومما قال عنترة وقيل ابن زيادة التيمي:
يريد أنه لا يتكلف أن يجمع كفه فيشتمل على الرمح لكن يطعن به خلسًا بأصابعه لخفة ذلك عليه. وقوله: لا أتبع تزواله: أي إذا مال لم أمل معه.يقول: أنا ثابت على ظهر الخيل لا يضرني فقد بعض الآلة، ولا تغير السرج عما يريده الراكب. يصف نفسه بالفروسية في الركوب والطعن، فلما كانت السموات والأرض أعظم الموجودات قدرًا وأكبرها خلقًا كان إمساكها بالنسبة إلى الله تعالى كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا ونهزه بأيدينا، ونتصرف فيه كيف شئنا فتكون الإشارة بقوله: ثم يقبض أصابعه ويبسطها وبقوله: ثم يهزهن كما جاء في بعض طرق مسلم وغيره. أي هي في قدرته كالحبة مثلًا في كف أحدنا التي لا نبالي بإمساكها ولا بهزها ولا تحريكها، ولا القبض والبسط عليها، ولا نجد في ذلك صعوبة ولا مشقة، وقد يكون الأصبع أيضًا في كلام العرب بمعنى النعمة وهو المراد بقوله عليه السلام: إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن أي بين نعمتين من نعم الرحمن يقال: لفلان علي أصبع أي أثر حسن إذا أنعم عليه نعمة حسنة، وللراعي على ماشيته أصبع أي أثر حسن. وأنشد الأصمعي للراعي: وقال آخر: أي أثر حسن. وقال آخر: فإن قيل: كيف جاز إطلاق الشمال على الله تعالى وذلك يقتضي النقص؟ قيل:هو مما انفرد به عمر بن حمزة عن سالم، وقد روى هذا الحديث نافع وعبد الله بن مقسم عن ابن عمر لم يذكرا فيه الشمال. ورواه أبو هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه واحد منهم الشمال.وقال البيهقي وروى ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعبف بمرة، وكيف يصح ذلك وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى كلتا يديه يمينًا؟ وكان من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له أو على عادة العرب في ذكر الشمال في مقابلة اليمين.قال الخطابي: ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليد شمال، لأن الشمال محل النقص والضعف. وقد روى كلتا يديه يمين وليس معنى اليد عندنا الجارحة، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكفيها.وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب والسنة المأثورة الصحيحة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة. وقد يكون اليمين في كلام العرب بمعنى القدرة والملك ومنه قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} يريد بها الملك، وقال لأخذنا منه باليمين أي بالقوة والقدرة أي أخذنا قدرته وقوته. قال الفراء: اليمين القوة والقدرة وأنشد: وقال آخر: قلت: وعلى هذا التأويل تخرج الآية والحديث والله أعلم. وقد تكون اليمين في كلام مالك العرب بمعنى: التبجيل والتعظيم. يقال عندنا باليمين أي بالمحل الجليل ومنه قول الشاعر: أي بالمحل الرفيع وأما قوله: كلتا يديه يمين فإنه فإنه أراد بذلك التمام والكمال، وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في التياسر من النقصان، وفي التيامن من التمام. فإن قيل: فأين يكون الناس عند طي الأرض والسماء؟ قلنا: يكونون على الصراط على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. اهـ.
|